يَرد في كتاب "الاستبداد المفرح- حوارات مع حاتم علي" سؤال يُوجّهه المحاور فجر يعقوب إلى حاتم علي، ويسأله فيه عن سرّ الانقلاب الذي أحدثه مسلسل "التغريبة الفلسطينية" في شكل الإنتاج التلفزيوني الدرامي المتعلّق بالموضوع الفلسطيني والقضية الفلسطينية، من ناحية قدرة المسلسل على عرض نكبة الفلسطينيين ومأساتهم الجمعية بشكلٍ لم يسبقه إليه أي عمل درامي سابق.
يُجيبُ علي على سؤال يعقوب بالقول: "إذا كان ثمة انقلاب هنا، فأنا أرى أنّه ناتج عن زاوية الرؤيا الجديدة والمختلفة"، ويضيف عن زاوية الرؤيا الجديدة التي استند إليها في إخراجه للمسلسل، وحاول عبرها عدم الوقوع في الشرك الدعائي الذي بتعبيره "كان يُحوّل الفلسطيني إلى مارد، ويحصره في إطار العمل الفدائي المقاوم"، حيثُ يقول: "حاولنا أن نقدّم الفلسطينيين بأحلامهم وآلامهم ونقاط ضعفهم، وأن نردهم إلى آدميتهم، أنسنة هؤلاء الناس والتركيز على لحظات الضعف في حيواتهم، وفي انكساراتهم وانهزاماتهم، (كما في لحظات موتهم) وتخليص التمثيل من الخطابة والمبالغة وكليشيهات الفلسطيني (السوبرمان)، كان من أهم أولوياتي. أظن أن ميزة "التغريبة الفلسطينية" أنها حولت هذه النماذج والأنماط إلى شخوص من لحم ودم".
رأى المخرج الراحل حاتم علي، في حوار معه، أنّ ميزة مسلسل "التغريبة الفلسطينية" تكمن في أنه حول الفلسطينيين إلى شخوص من لحم ودم
وبالتأكيد على مضامين إجابة علي السابقة، فإنّه فِعلًا ربّما لا يوجد عمل درامي عربي واحد قدّم ما قدمته التغريبة الفلسطينية في سرديتها حول نكبة الإنسان الفلسطيني وتحوّله إلى لاجئ.
ميزة هذا المسلسل أنّه أول عمل فني درامي تمكّن من توظيف المادة التاريخية دون أن تَجور صفته الفنية على الحقائق التاريخية، فتقوم بتزييفها أو تحريفها تحت دعاوى الإسقاط أو التصرّف الفني الدرامي، فرغمَ أنّ المسلسل لم يُقدّم قصة جديدة عن نكبة الفلسطينيين، إلا أنّه استطاع إعادة توثيق مأساة الفلسطينيين، عبر اقتباس الكثير من سرديات المأساة وقصصها المؤرشفة في المراجع التاريخية، وعرضها بصريًا بشكل حاكى واقع المأساة بشكل كبير.
والحديث عن تفرّد مسلسل التغريبة الفلسطينية في عرضه لنكبة الفلسطينيين، يقود إلى سؤال مشروع حول كيفيات معالجة الدراما العربية للقضية الفلسطينية، وتناولها لنكبة الفلسطينيين ومأساتهم الجمعية.
ويُمكن التأكيد في هذا الصدد، على أنّه هناك الآلاف من الحكايا السردية التي تستحقّ أن تدوّن، وتصبح حكاية درامية تروي سيرة مجموعة الفلسطينيين الذين طردوا من أراضيهم وديارهم بغير وجه حقّ، لكنّ وجه القصور التي تنطبع به هذه الحكايا جميعها، هو وجودها فقط في السيرة الشفهية لسرديات النكبة، فهي تسري على ألسنة الجيل الذي خرج من فلسطين عام 1948، دون أن تدوّن، أو تُكتب بشكل يَسمح لكتاب ومنتجو ومخرجو الدراما العربية بمعالجتها وإخراجها في أشكال درامية توثّق مأساة الفلسطينيين.
وهذا القصور الذي تنطبع به حكايا السيرة الشفهية للنكبة، لا ينفي بأنّ هناك تقصيرًا حقيقيًا في الدراما العربية في تناول فصول هذه المأساة، فباستثناء التغريبة الفلسطينية، كانت هناك بعض الأعمال القليلة الأخرى (السورية تحديدًا) التي حاولت تقريب صورة النكبة من الأذهان العربية، وعرضها عبر طريقة الإسقاط، وهو ما يُمكن ملاحظته في مسلسل "الموت القادم إلى الشرق"، وهو مسلسل فانتازيا تاريخية يستعرض حكاية لمجموعة من قطاع الطرق وشذاذ الآفاق الذي يجتمعون من مناطق مختلفة، ثمّ يذهبون إلى مدينة تُدعى "مدينة النور" في الشرق، فيستولون عليها ويقتلوا حكامها، وينصبوا أنفسهم حكامًا عليها بقوة السلاح.
الجميل في هذا العمل الدرامي أنّه ركّز على صفة الأغراب في وصف هذه المجموعة من قطاع الطرق، وذلك في إشارة صريحة إلى دولة الكيان الإسرائيلي، التي ستبقى غريبة عن الشرق والمنطقة العربية، وسيبقى أصحابها غرباء وأغيار عن هذه المنطقة، مهما حاولوا قلب وتزييف الحقائق وإسقاط لقب الأغيار أو الـ"غوييم" على الفلسطينيين أصحاب الأرض.
هناك حاجة ملحة لمعالجات درامية جديدة تَعرض نكبة الفلسطينيين على حقيقتها، بعيدًا عن تلك السرديات التي تدخل ضمن الأجندة الإعلامية التي تروّج لصفقة القرن، عبر تزوير الحقائق، وتشويهها، كتحوير الأسباب التي أوصلت بالفلسطينيين إلى مأساة لجوئهم وشتاتهم، وتحويلهم من ضحايا نزحوا عن أرضهم قسرًا هربًا من المجازر الجماعية وحملات التطهير العرقي المنظمة التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في مدنهم وقراهم، إلى أناس جشعين باعوا أرضهم أو تخلوا عنها وخرجوا منها طوعًا، فسؤال النكبة الفلسطينية سيبقى قائمًا على المستويات الدرامية العربية طالما بقيت عقدتها الرئيسة موجودة، وطالما بقي الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية قائمًا.