ثمة مؤشران رئيسيان يمكن الخروج بهما من حصيلة الانتخابات الأوروبية الأخيرة، في 26 أيار/مايو 2019، هما: نسبة التصويت الكبيرة، والاختراق الملفت للأحزاب الخضراء.
مع ذلك، لا يمكّن هذين المؤشرين، في صيغتهما المجردة هكذا، من قراءة للخارطة السياسية الأوروبية في موضع أول، وفي موضع ثانٍ استبانة علاقتها بقضية الهجرة. هكذا يجدر تتبع خيوط اكتمال المشهد، من أول التعبئة الانتخابية وصولًا إلى تنصيب هياكل الاتحاد.
تأتي قضية الهجرة كإضافة لبرنامج التنافس الأوروبي الداخلي بعد كبح المد الشعبوي والحفاظ على وحدة الاتحاد والخروج من تبعات الأزمة الاقتصادية
على المستوى العام، تصدر تحالف أحزاب الشعب (EPP) الحصيلة الانتخابية بـ182 مقعدًا، لم يمكنه من تشكيل قوة ضاغطة دون الدخول في حسابات عسيرة وتسويات، خاصة مع المطارد "S&D" التحالف الاشتراكي بزعامة الهولندي فرانز تيمرمانز.
اقرأ/ي أيضًا: صعود اليمين المتطرف عبر أوروبا.. سبل للمواجهة المؤجلة!
ولا يجمع بين التحالف الاشتراكي وبين المحافظين سوى ولائهما لبروكسيل، ما يجعل الأول بعيدًا عن الكتل اليمينية الشعبوية والمشككة في الاتحاد، بينما يزيد الثاني قوته بقربه من نجم الشباك الجديد أي الأحزاب الخضراء. أما الليبراليين (RE) فهم زئبق هذه التوليفة، مع أنهم حلوا ثالثًا، تجدهم تارة ميالين للمحافظين وأخرى للاشتراكيين.
بينما الكتلة ككل تصراع المد اليميني الشعبوي الذي نجح في تنفيذ تكتيك اكتساحه جغرافيًا، وهو اكتساح تكلل بسيادته على صدارة مقاعد فرنسا وإيطاليا وبريطانيا والمجر وبولندا، وتحقيق اختراق ملحوظ في ألمانيا وإسبانيا. إضافة إلى ضغط نوابه داخل المفوضية الأوروبية.
في ظل كل هذه التقاطعات تأتي قضية الهجرة، كإضافة لبرنامج التنافس الأوروبي الداخلي؛ بعد كبح المد الشعبوي، الحفاظ على وحدة الاتحاد، والخروج النهائي من تبعات الأزمة الاقتصادية، والالتزامات البيئية للاتحاد، وقد اتحدت كل القوى الأوروبية ضد "شبح الهجرة": أحزاب الشعب المحافظة والليبراليون والسطيون ورابطات اليمين الشعبوي.
طيف الهجرة في الخطاب الانتخابي الأوروبي
تختلف كل هذه الفرق في نظرتها لقضية الهجرة، وتتباين. كما الحال عند تحالف EPP المحافظ، الذي دخل السباق رافعًا شعار تقوية الحدود الخارجية الأوروبية ضد موجات الهجرة المتوالية، بقبضة أمنية حديدية يوضحها مانيفيستو الكتلة، قائلًا: "سنحرص على أن تكون أرضي أوروبا منيعة أمام أي قدم تطأها دون موافقة السلطات الأوروبية".
وواعدًا بتجديد ترسانة قوات حرس الحدود الأوروبية، واستثمار اعتمادات مهمة في هذا الصدد، مع إطلاق برنامج يقظة أوروبي لترحيل المهاجرين الغير الشرعيين لبلدانهم الأصلية.
في حين يعتبر الاشتراكيون في الهجرة فرصة أكثر من كونها تهديدًا لأوروبا، هكذا ينادون بإصلاح قوانين الهجرة واللجوء بما يحترم حقوق المهاجرين في الحماية الدولية والعيش الكريم. وهذا لا يعني قبولهم الشكل الحالي لموجات الهجرة، فهم كذلك دعوا إلى تقوية الحدود لكن بتمكين المهاجرين من ممرات آمنة ومقننة كأداة لمكافحة شبكات التهريب والاتجار في البشر.
كما وعدت الأحزاب الاشتراكية، في مانيفيستو تحالف أحزابها، بضخ اعتمادات مالية في آليات إدماج المهاجرين، ودعم مراكز الاستقبال المتواجدة على الخطوط الأمامية لموجات الهجرة القادمة من الجنوب والشرق.
أما مانيفاستو تحالف ACRE الإصلاحي اليميني، فيرفض كوتا المهاجرين التي أقرها الاتحاد الأوروبي سنة 2015، لتوزيع الضغط الديموغرافي على باقي دول الاتحاد، منطلقين من مبدأ "أن لا وكالة أوروبية تعوض السيادة الوطنية في القرار"، مطالبين بإعادة الحدود بين الدول الأوروبية للحد من زحف المهاجرين.
"قوانين اللجوء والهجرة الأوروبية لم تعد قادرة على إدارة الوضع الحالي"، هكذا يعلنها برنامج تحالف القوى الليبرالية الديموقراطية (ALDE). وبحسب نظر التحالف، فلا محيد عن إصلاح السياسات الأوروبية الموحدة دون اللجوء إلى حصرها في الإطار الوطني لدول الاتحاد.
ولكبح مد الهجرة المتزايد، تراهن القوى الليبرالية الديمقراطية على دعم الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل، وجعلها المسؤول الحقيقي عن حماية الحدود الخارجية للاتحاد، كما تدعم وجود برنامج لترحيل المهاجرين الغير الشرعيين لأراضي آمنة، لكن خارج الاتحاد.
"الحق في اللجوء غير قابل للتفاوض"، هكذا تقرها الأحزاب الخضراء، التي دعت إلى إصلاح اتفاقية دبلن للهجرة واللجوء، وإلى خلق طرق هجرة شرعية وآمنة وتأشيرات إنسانية للجوء، كما ترفض تجريم المنظمات الإنسانية التي تشتغل في إغاثة اللاجئين. الأمر الذي تلتقي فيه والأحزاب اليسارية، الذين دعو، إضافة إلى ذلك، لتسهيل إجراءات اللجوء والتجمع العائلي، ومعاقبة الدول التي ترفض استقبال اللاجئين.
أما قوى اليمين الشعبوي فموقفها واضح من القضية، ذات الموقف الذي عبر عنه الشعار الانتخابي لماتيو سالفيني، رئيس حزب الرابطة الإيطالي: "لا للبيروقراطيين، لا للبنوك، لا للقلوب الرقيقة ولا لقوارب المهاجرين".
وتدعمه كل من مارين لوبان، التي ما فتئت تشيد بسياسات وزير الداخلية الإيطالي في المسألة، ورئيس وزراء المجر الذي أشاد به سالفيني هذه المرة كـ"حارس للديار الأوروبية من خطر الإسلام"، مما لا يجعل شك في رفض القوى اليمينية للهجرة، دعمهم للقبضة الأمنية الحديدية على الحدود الأوروبية الخارجية، القبضة الأمنية الوطنية يقصدون لا عن طريق قوات الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل، مع تجريم وتغريم كل من يشترك في عمليات إغاثة المهاجرين.
ظلال على مفوضية "فون دير لاين"
مباشرة عقب اختيارها على رأس المفوضية الأوروبية، أجرت أورسولا فون دير لاين، في 19 تموز/يوليو الماضي لقاءً مع الصحافة الأوروبية، تضمن تصريحات أضاءت حول رؤيتها المستقبلية للاتحاد والمهام المنوطة بمنصبها.
وكما المعهود، كان على رأس الاهتمامات قضية "الهجرة"، التي قالت عنها: "نستطيع ضمان استقرار حدودنا الخارجية فقط إذا قدمنا المساعدة الكافية للدول التي تتلقى ضغطًا كبيرًا من سيل المهاجرين إلى أراضيها، نظرًا لموقعها الجغرافي".
وأكدت فون دير لاين على عزمها إعادة النظر في اتفاق دبلن المؤسس لقوانين الهجرة في الاتحاد، مبينة عن مرونة منقطعة النظير في التعامل مع سياسات دول جنوب وشرق القارة كإيطاليا والمجر وبولندا.
هذه الخطوط العريضة التي أفشتها أورسولا فون دير لاين عن برنامجها، يمكن رؤيتها كمعبر رئيسي عن الوضع السياسي الذي تعيشه هي كرئيسة مفوضية أوروبية نصبت بعد مخاض عسير، كما يعبر عن الوضع الداخلي للاتحاد ورهاناته المستقبلية فيما يخص صراع مكوناته وإدارة واقعه على ضوء هذا الصراع.
ويجدر بالإشارة إلى أن رئيسة المفوضية، ذات الميول المحافظة سياسيًا، ستمارس مهامها داخل فريق حكومي من خصومها الأيديولوجيين، محاطة بوجوه اشتراكية يسارية وخضراء، في وضعية صعبة هي الثمن لصفقة تربعها على عرش الهيئة الأوروبية، جردتها من حلفاء داخل الفريق، هي التي ترغب في تعويض الفرق من مفوضي الدول الأعضاء.
ولعل هذا ما يفسر تبشيرها بمرونة في التعامل مع دول الشرق والجنوب الأوروبي، الدول التي تصطف داخل البرلمان من جهة اليمين الأقرب إلى البروفايل السياسي للرئيسة المنتخبة.
من هذا المنطلق تأتي دعوتها إلى إصلاح اتفاق دبلن، خاصة في بند أن "الأرض الأوروبية التي يحط فيها اللاجئ قدمه أول مرة، هي التي يستقر فيها". داعية إلى الاستماع للمعارضة كلٍ من وارسو وبودابيست لـ"كوتة استقبال المهاجرين".
وقد أشارت إلى أن مبدأ التحمّل المشترك لـ"ثقل أزمة المهاجرين"، يجب أن يقوم على مراعاة خصائص كل دولة ولا بتطبيقه الحرفي. في وقت أن حتى فرنسا هولاند وألمانيا ميركل رفضت تطبيق هذا المبدأ، وضغطت على تصحيحه وقتذاك.
وارسو.. أو الكيل بألف مكيال
في مسودة مسربة لقانون الهجرة البولندي الجديد، يسفر وجه حكومة وارسو المعادي للأجانب الملونين والمسلمين، واصفة المسلمين بـ"الجالية التي يصعب اندماجها داخل النسيج الاجتماعي الوطني، وانضباطها للقيم الدينية والثقافية المجتمع البولندي".
فيما اعتبرت منظمة هلسنكي الحقوقية، الحديث عن اشتراط الهجرة بـ"الانضباط للقيم الدينية والثقافية"، هو ضرب في صميم الحرية وحقوق الإنسان، وانتقائية وتصفوية تقوم على كراهية الآخر والاختلاف معه.
في المقابل، علق لوسائل الإعلام المحلية، ناطق باسم وزارة الداخلية البولندية، على الوثائق المسربة، قائلًا إنها مسودة قيد الدراسة والتنقيح، وأن سياسة الحكومة في هذا الصدد لم تتغير طيلة الأربع سنوات الأخيرة.
يُذكر أن الحكومة البولندية الجديدة، يقودها حزب "القانون والعدالة" اليميني المتطرف، والذي صعد نجمه على صدى الشعارات الشرسة المناهضة للهجرة، وبوصف رئيسه ياروسلاف كاتشينسكي، للمهاجرين بـ"الطفيليات والجراثيم".
لكن أي مهاجرين هم هؤلاء "الطفيليات والجراثيم"؟ هم المسلمين وأصحاب البشرة الملونة دون غيرهم، حيث استقبلت وارسو منذ بداية الأزمة الأوكرانية 1.5 مليون لاجئ، لكن هؤلاء بالنسبة لها، يسهل إدماجهم في سوق الشغل، مع استصدار بطائق عمل وتأشيرات خاصة بهم.
يفضح هذا سياسة الكيل بالمكيالين، وهو ما تؤكد عليه الوثائق المسربة في حديثها عن المستثنين من الهجرة إلى بولونيا، بمبرر يبدو جليًا أنه أقبح من ذنب.
ومن المتوقع أن تتعامل فون دير لاين مع حكومة وارسو بمرونة وإصغاء مهتم، كما وعدت، لأن في النهاية ما يهم هو التوازنات السياسية داخل الاتحاد والمصالح البراغماتية المشتركة، أما الوضع الحقوقي وقضية الهجرة فلا يبدو أنها تتجاوز كونها وسيلة للضغط السياسي!
إيطاليا سالفيني وتمثيلية مناهضة الاحتلال
في دليل آخر عن كون قضية الهجرة ليست إلا وسيلة لتصفية الحسابات والضغط السياسي بين دول الاتحاد؛ في حوار له شهر كانون الثاني/يناير، صرح لويجي دي مايو، زعيم حركة النجوم الخمسة اليمينية الإيطالية، لصحيفة "Il Fato Quotidiano"، قائلًا: "فرنسا لا زالت تدير شركات استعمارية في دول أفريقيا، وبالتحكم في عملتها، تضعف اقتصاد هذه الدول التي يأتي منها العدد الأكبر من المهاجرين". محملًا حكومة الإليزيه مسؤولية موجات الهجرة التي تتوارد على بلده، وداعيًا لرفع يدها عن خيرات القارة السمراء.
هذا التعليق، وغيره مثل الذي صرح به قرينه وزير الداخلي ماتيو سالفيني، لا يمكن قراءته إلا في إطار التنافس بين ماكرون واليمين الشعبوي، وبين دول المركز الأوروبي (ألمانيا وفرنسا) ودول الهامش، مثل إيطاليا، إذ تزامنت وشيوع أخبار غير دقيقة عن: "اتفاق فرنسي ألماني يسعى لحجز مقعد باسم الاتحاد الأوروبي لألمانيا داخل مجلس الأمن بالأمم المتحدة".
لا يرجح أن تتوقف سياسة تقطير الشمع اليمينية على قوى الوسط الليبرالي واليسار الأوروبي، لاستخدام أداة "شبح الهجرة واللجوء"
سياسة "تقطير الشمع" اليمينية على قوى الوسط الليبرالي واليسار الأوروبي بأداة "شبح الهجرة واللجوء" لم تتوقف عند ذلك الحدث، بل عادت لتتكرر على طول الصدام بين الجبهتين السياسيتين، آخرهما شرط سلفيني لرسو سفينة "Sea watch 3" في لامبيدوزا، بأن يتم ترحيلهم فيما بعد لفرنسا أو فنلندا.
وستتكرر مثل هذه السياسات مادام الصراع قائمًا، ومع استمرار النظر إلى القضية خارج إطارها الإنساني، كما ستبقى الهجرة في حسابات الفرقاء الأوروبيين الحاليين أداة للضغط السياسي والمناكفة القطبية.
اقرأ/ي أيضًا:
في ذكرى مروة الشربيني.. 10 سنوات من التطبيع مع العنصرية ضد المسلمين في ألمانيا