فيلم آخر يصنعه الغرب عن المحرقة اليهودية، كي يكفر عن ذنوبه تجاه يهود أوروبا.
حقًا سئمنا من الابتزاز الإسرائيلي بحق الماضي، ونحن نرى اليوم إبادة جماعية ترتكب في غزة بحق الفلسطينيين، الذين تحولوا إلى ضحايا أبديين على مذبح ضحية الغرب اليهودية.
هذا كان لسان حالي عندما سمعت عن فيلم "منطقة اهتمام" للمخرج الإنجليزي اليهودي جوناثان كليزر، لكن نظرتي تغيرت كليًا، بعد الكلمة التي ألقاها كليزر، لدى تسلمه جائزة أفضل فيلم أجنبي في حفل الأوسكار الأخير. حيث ندد المخرج بما يرتكبه الاحتلال الاسرائيلي، الذي اختطف المحرقة وعذابات اليهود كي يقتل الأبرياء في غزة. وهكذا كان تصريح المخرج محرضًا لي كي أشاهد الفيلم، المغاير تمامًا في مقاربته للمحرقة اليهودية، حيث لا ظهور لأي يهودي طوال فترة عرض الفيلم، ولا وجود للدماء على الشاشة إلا مواربة، كما في مشهد تنظيف حذاء الضابط رودولف هوس، قبل ولوجه المنزل عائدًا من عمله.
أما أحداث الفيلم فهي تدور حول عائلة الضابط النازي رودلف هوس، ولا شيء استثنائي في القصة سوى أن الضابط هوس هو قائد معسكر أوشفيتز، ومنزل العائلة لا يبعد سوى بضعة أمتار عن معسكر الإبادة الجماعية. وقد ارتكز المخرج إلى رواية تحمل الاسم نفسه لمارتن أميس، والرواية بدورها مستوحاة من قصة هوس نفسه، وما يجعل هذه القصة استثنائية، هو القرب بين الجنة والجحيم.
حيث لم يكن يفصل المعسكر عن المنزل سوى جدار إسمنتي، أما سينمائيًا فالجدار يفصل الفيلم إلى فيلمين، أولهما فيلم رعب نسمعه ولا نراه، وتدور أحداثه في المعسكر، والثاني هو فيلم زاهي البهجة نراه على الشاشة، وتدور أحداثه في المنزل والحديقة الخلابة من حوله.
تكمن حبكة فيلم "منطقة اهتمام" في أن يسمع المشاهد صوت الضحية من دون أن يراها. ومن هنا امتنع المخرج كليًا عن تصوير مشاهد التعذيب والقتل، من باب احترام إنسانية الضحايا
ورغم أن غاية الجدار كانت منع الإبادة من التسرب إلى جنة العائلة، لكن الجدار لم يكن عازلًا تمامًا والجنة لم تكن إلا سرابًا، حيث إن صراخ المسجونين كان يصل إلى الطرف الآخر، وكذلك أصوات القطارات التي كانت تقلهم إلى حتفهم، بالإضافة إلى نباح الكلاب التي تتعقبهم، وطلقات الرصاص التي تلاحقهم. ويمكن القول إن مجمل العمل على هندسة الصوت كان لافتًا في الفيلم، وقد تم تجميع الأصوات وتركيبها من أصوات الجموع في مدرجات كرة القدم الألمانية، ومن مظاهرات السترات الصفر في فرنسا.
وبلا شك تكمن حبكة الفيلم في أن يسمع المشاهد صوت الضحية من دون أن يراها. ومن هنا امتنع المخرج كليًا عن تصوير مشاهد التعذيب والقتل، من باب احترام إنسانية الضحايا، في محاولة عكسية لما تفعله عادة الأنظمة الفاشية، عندما تجرد الضحايا من انسانيتهم، تمهيدًا لسحقهم.
ومع أن الفيلم لم يصور أهوال غرف الغاز، لكننا رأينا كيف يهندس الموت بدقة على الطريقة النازية، كما في مشهد زيارة مهندسي الإبادة للضابط هوس في مكتبه، حيث قدموا له تصميمات جديدة لغرف الغاز، موضحين من خلال الخرائط كيف يمكن نقل الحمولة بسرعة، وتفريغها بتقنية عالية.
أما الحمولة فلم تكن سوى أجساد البشر، وقد اختنقت بالغاز السام. وكأن القتل الجماعي في زمن النازية كان أشبه بمصنع ضخم، جرى فيه هندسة الموت بجودة ألمانية عالية.
الأخ الأكبر في منزل النازيين
رغم وفرة الأفلام التي تطرقت لموضوع المحرقة، لكن الكيفية التي قدمها المخرج شكلت إضافة سينمائية هامة. بداية لم يكن اختيار الممثلين من أصول المانية اعتباطيًا، فقد أراد المخرج أن يحاكي الواقع إلى أبعد حد.
ومع أن الفيلم يدور حول معسكر الإبادة لكن الكاميرا لم تدخل المعسكر، بل قلبت عدسة التصوير وأصبح الأخ الأكبر يراقب النازيين في عقر دارهم، وأصبحنا كمشاهدين نرى بعيون هوس وعائلته. حيث لجأ المخرج إلى تثبيت كاميرات في كافة أرجاء البيت، بالإضافة إلى كاميرات وضعت في أماكن مخفية. كما ابتعد عن اللقطات القريبة داخل المنزل، واستعان بالإضاءة الطبيعية من دون أية مؤثرات خارجية، أما طاقم العمل والفنيون فكان تواجدهم في قبو المنزل، بعيدًا عن الممثلين. وقد تم اتخاذ كل هذه الإجراءات كي يترك الممثل على سجيته، ويشعر المشاهد كأنه في سينما الواقع، حيث تمارس عائلة هوس حياتها العادية، قرب معسكر الإبادة.
وبهذا المعنى هي عادية الشر، في استعادة للمصطلح الذي ابتكرته الفيلسوفة حنة آرنت، عندما حضرت محاكمة أيشمان، مسؤول الهولوكوست الأول، ووجدته خلال المحاكمة يتصرف كأي موظف بيروقراطي يعمل في خدمة الموت وينفذ أوامر رؤسائه بحذافيرها، ليس إلا.
وقد ظهرت عادية الشر في الفيلم جلية خلف الجدار، بل إن الشر على جانب من الجدار، كان خيرًا على الجانب الأخر. حيث إن رودلف هوس في بيته كان أبًا محبًا يقرأ لأولاد قصص قبل النوم، كي يحلموا أحلامًا سعيدة. لكن الابنة الصغرى لم تكن تحلم بل تمشي أثناء النوم، لأن النهار حافل بما يعجز عقل الطفلة عن استيعابه. أما الأولاد الذكور فكانوا يلعبون كالأطفال الآخرين مع اختلافات جوهرية، حيث كانت تغلب لعبة الحرب على كل الألعاب، ويحتجز الأخ أخيه في البيت الزجاجي، كما تحتجز الضحية في غرف الغاز، أو قد تكون ببساطة اللعبة هي الأسنان المقتلعة للضحايا.
أما السيدة هوس، أو ملكة أوشفيتز كما كان يسميها زوجها، فلم يكن شي يعكر عليها صفو جنتها الخضراء في محاذاة الجحيم، وكأن لسان حالها يقول: لتسفك الدماء الحمراء ما دام رماد الضحايا يسمد الحديقة، وليشقَ الآخرون مادام شقاؤهم ثمنًا لرفاهية عيشنا.
وفي هذا السياق لم تكن السيدة هوس تتورع عن سرقة ثياب وممتلكات المقتولين، أو وضع أحمر شفاههم على فمها، في قبلة باردة للموت.
بموازاة ذلك لم تستطع جدة الأطفال البقاء طويلًا في الجحيم، حيث قررت مغادرة المكان ليس من باب الإنسانية، بل لأنها لم تعد تحتمل القرب من موقع الجريمة. حالها في هذا يشبه من يأكل اللحم المشوي بمتعة، ولكنه لا يحتمل رؤية الشاة تذبح أمام ناظريه.
إلى أي مدى يستطيع الجدار حجب إنسانية الآخر وراءه؟
يبقى سؤال الإنسانية هو تيمة الفيلم الكبرى. والإجابة في الفيلم تأتي خجولة من خلال شابة تنتمي للمقاومة البولونية، كانت تتسلل ليلًا إلى المعسكر وتترك ثمار التفاح على المحكومين بالموت، كمن يترك نتف حياة لمن فقدوا احساسهم بالحياة. ولكنها بالمقابل كانت تعثر أيضًا على إشارة حياة، كما في القطعة الموسيقية التي تركها أحد السجناء مرمية قرب التفاح، وعندما حاولت عزفها لم تسمع من ميلودي الجحيم سوى صرخة الحرية المشتهاة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن مشاهد الفتاة في الفيلم، ظهرت كنيغاتيف بالأبيض والأسود، وكأن الجانب الإنساني في القصة يعجز النازيون عن رؤيته.
تتجلى فرادة فيلم "منطقة اهتمام" في قدرته على تعرية دواخل الشر الكامن في البشر، حيث تحولت عدسة الكاميرا إلى مرآة للروح البشرية
يحيلنا هذا إلى بريمو ليفي، أحد الناجين من المحرقة، الذي كتب بما معناه: في ألمانيا النازية كان هناك كود سري، فمن يعرف لم يكن يتكلم، ومن لا يعرف لم يكن يطرح الأسئلة، أما من يسأل فلم يكن يجد الأجوبة.
وكأن غالبية الألمان كانوا يعيشون في حديقة مشابهة لحديقة السيدة هوس، ولا يرغبون في رؤية الجحيم خلف الجدار.
ولعل فرادة هذا الفيلم تكمن في أنه عرى دواخل الشر الكامن في البشر. وكأن عدسة الكاميرا تحولت إلى مرآة للروح البشرية، حتى أن الممثل الألماني كريستان فريدل الذي جسد شخصية رودلف هوس، أصيب بالرعب لدى مشاهدته للفيلم أول مرة، حيث صرح بأنه شعر في لقطات معينة بتقاطعات بينه وبين شخصية هوس، وانتابه إحساس مقيت بالخوف من الشر القريب والعادي بآن واحد.
الكاميرا.. عين المستقبل
في مشهد مفصلي من الفيلم، يهبط رودلف هوس درجات السلم نحو القاع، ثم يقف مغالبًا رغبته بالتقيؤ. وكأن روائح شوي الأجساد البشرية المشوية أصابه بالغثيان، أو أن الجسد لم يعد يحتمل ثقل الجرائم ووحشية مرتكبها.
سيحاول ويحاول، ولكنه لن يتقيأ. بل سينظر مباشرة في عين الكاميرا، التي هي نحن المشاهدين، وسيسافر بنا الفيلم عبر الزمن، إلى الحاضر.
وكأن الكاميرا أصبحت عين المستقبل، والمكان تحول إلى متحف أوشفيتز الآن.
وهنا للمرة الأولى سنرى وجوه الضحايا وأشياءهم المحفوظة خلف الزجاج، أما القتلة فقد سقطوا في مزبلة التاريخ. حيث تخبرنا سجلات التاريخ بإعدام الضابط هوس بعد هزيمة النازية، أما البيت الموازي للمعسكر فقد تحول على أرض الواقع إلى منزل تسكنه عائلة بولونية عادية. في حين أن السيدة هوس وأطفالها تمكنوا من الهرب إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأكملوا حياتهم هناك في الظل.
وعندما توفيت "ملكة أوشفيتز" أواخر القرن الماضي في واشنطن، لم تكتب الابنة على القبر اسم أمها "هدفيك هوس"، بل اكتفت بشاهدة كتب عليها: "هنا ترقد أمي".
في تجسيد عميق لخوف الجناة من انتقام الضحايا، رغم مرور كل هذه السنين.
شاشة معتمة
يبدأ الفيلم بشاشة معتمة، حتى أن المشاهد يخال لوهلة أن ثمة عطل تقني، لكن الأصوات التي تتعاقب فيما بعد، ستقود إلى الجحيم.
وسينتهي الفيلم حيث بدأ، بشاشة سوداء وعويل الضحايا. وسنسأل كمشاهدين: هل يكفي أن نغمض أعيننا على ظلام دامس كي ندعي العمى ولا نشعر بعذابات البشر حولنا؟ وهل يكفي أن يبنى جدار كي تحجب الحقيقة؟
ولن نستطيع أن نمنع أنفسنا من المقارنة بين ماضي اليهود في ألمانيا النازية، وما يحدث اليوم للفلسطينيين في إسرائيل. حيث يموت الأبرياء بالآلاف أمام مرأى العالم، ولا أحد يحرك ساكنًا.
ولعل سخرية القدر أن يقف السياسيون الألمان اليوم كما الماضي، في المكان الخطأ، وكأن حائطًا مهولًا يحجب عنهم الحقيقة، فلا يرون وإن رأوا.
وبعيدًا عن المجاز، كان ثمة جدار حقيقي قبل 7 أكتوبر يفصل الإسرائيليين، الذين يحيون الحفلات الموسيقية في غلاف غزة، عن عذابات البشر خلف الجدار، حيث غزة.
ورغم أن جدار برلين سقط، ومثله جدار الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، لكنها مازالت عالية وعازلة؛ الجدران التي تفصل الفقراء عن الأغنياء، المضطهدين عن مضطهديهم، والقتلة عن الضحايا.
وها نحن اليوم نعيش زمن العولمة خلف جدران زجاجية، تبدأ ربما بشاشة التلفاز، وتنتهي أمام شاشة الحاسوب والهاتف النقال، ويكفي أن نطفئ أزرار التشغيل، حتى يتحول كل ما حولنا إلى شاشة معتمة.