أصبحت قضية "الإصلاح القضائي" في إسرائيل، نقطةً على جدول أعمال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، خلال اجتماعاته الخارجية، فالقضية ناقشها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال اللقاء مع نتنياهو قبل أسابيع، كما أنها شغلت الإدارة الأمريكية، وناقشها وزير الخارجية أنتوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان.
الأحد صباحًا، نُشر لأول مرة موقف الرئيس الأمريكي جو بايدن بشكلٍ علني، من خطة نتنياهو وتحالف اليمين الإسرائيلي من أجل "الإصلاح القضائي"
الأحد صباحًا، نُشر لأول مرة موقف الرئيس الأمريكي جو بايدن بشكلٍ علني، من خطة نتنياهو وتحالف اليمين الإسرائيلي من أجل "الإصلاح القضائي"، أو ما يتم وصفه في تغيير نظام الحكم، وقال بايدن: "عبقرية الديمقراطية الأمريكية والديمقراطية الإسرائيلية هو أنهما مبنيان على مؤسسات قوية، على ضوابط وتوازنات، على قضاء مستقل. إن بناء توافق في الآراء بشأن التغييرات الأساسية مهم حقًا لضمان أن يقبلها الناس حتى يمكن استدامتها".
وفي المجمل يتحدث بايدن، عن ضرورة بناء إجماع حول أي تعديل، بمعنى أنه يرفض المقترح الحالي -قلق بايدن على الديمقراطية اليهودية بالطبع-، تصريح بايدن يأتي في وقت يتم الدفع بمشروع التعديلات القضائية للأمام بشكلٍ أكبر.
كما أن القضية، أصبحت حاضرةً في الشارع الإسرائيلي أكثر من أيّ وقت مضى، خاصةً مع جدية اليمين الإسرائيلي في تنفيذها هذه المرة، حيث تشهد ساحات المدن الكبيرة في دولة الاحتلال مظاهرات، مساء كل يوم سبت، ووصلت نقاشات القضية إلى قطاعات الاقتصاد، وبالأخص قطاع التقنية العالية (هايتك)، حيث هددت شركات الهايتك بسحب استثمارتها من دولة الاحتلال، وبعضها اتخذ هذه الخطوة. وسط الحديث عن تأثير هذه الخطوة، سينعكس على التصنيف الائتماني في إسرائيل، ويزيد من مخاطر الاستثمار فيها.
ومن المتوقع أن يشهد الأسبوع الحالي، ذروة النقاشات المرتبطة في قضية "الإصلاح القضائي"، حيث من المخطط له أن يتم التصويت على القراءة الأولى للقانون قبل يوم الأربعاء المقبل. فيما ستكون بداية العمل على المشروع، اليوم الأحد، مع طرح النقاشات في الكنيست يوم الإثنين، ويترافق مع ذلك الدعوات إلى إضراب عمالي واحتجاجات واسعة في دولة الاحتلال.
وتسعى حكومة اليمين المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو إلى إجراء عملية إصلاح واسعة النطاق في النظام القضائي في إسرائيل. ويعتزم نتنياهو، المتهم بقضايا "فساد وخيانة الأمانة"، ويُحاكم بسببها منذ أعوام، عبر هذه الإصلاحات التي يقودها وزير القضاء ياريف ليفين، إلى الحد من صلاحية الجهاز القضائي والمحكمة العليا، وتعزيز دور الحكومة، وفي إسرائيل يعتبر القضاء، وتحديدًا المحكمة العليا، الضابط الوحيد للفصل بين السلطات.
توصف الحكومة الإسرائيلية الحالية بأنها الأكثر تطرفًا ويمينيةً في تاريخ الدولة، والهجوم على المحكمة العليا في إسرائيل، يأتي على نهج كتل اليمين المتطرف في العالم، حيث يسعى اليمين الإسرائيلي، ومن خلال حملة ضد كافة الهيئات غير المنتخبة في الدولة، إلى مواجهة المحكمة العليا بدايةً، حيث ينظر في دولة الاحتلال، إلى أن المحكمة العليا، تمثل القواعد الليبرالية، أو التي توصف بأنها "يسارية"، مما يعيق اليمين، عن الحكم، و"تنفيذ إرادة الناخبين".
ومع عودة اليمين الصهيوني إلى الحكم بتنويعاته الفاشية، يعود التصويب على المحكمة العليا الإسرائيلية من جديد، وهو نقاش قديم نسبيًا، ارتفعت وتيرته في الأشهر الأخيرة، وبتشكيك أكبر في المحكمة العليا ودورها وفعاليتها.
وقوبلت هذه خطة الحكومة بردود فعل قوية رافضة، ووصفت بالخطيرة، حيث تهدف هذه الإصلاحات إلى تقويض سلطة القضاء، وقالت رئيسة المحكمة العليا الإسرائيلية إستر حايوت، إن "خطة الإصلاح القضائي التي تقترحها حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ستسحق منظومة العدالة، وتقوض الديمقراطية في البلاد".
كما أصدرت المستشارة القضائية للحكومة والمدعية العامة في إسرائيل غالي باهراف ميرا، تحذيرها الخاص من التعديلات المزمع إجراؤها، وقالت إن "التشريع المقترح، في حال إقراره بصيغته الحالية، سيؤدي إلى خلل منظومة الضوابط والتوازنات، ومبدأ حكم الأغلبية سيُقيد قيمًا ديمقراطية أخرى". وكانت ميرا قد أشارت إلى أنه يتوجب عدم مشاركة نتنياهو في خطة الإصلاح القضائي، نظرًا لتضارب المصالح.
في حين شبه رئيس المحكمة العليا السابق أهارون باراك، الإصلاحات التي ستقوض عمل المحكمة العليا بـ"بداية نهاية الهيكل الثالث". يشار إلى أن باراك يوصف بأنها المسؤول الأساسي عن "الثورة الدستورية"، التي عززت دور المحكمة العليا في دولة الاحتلال.
بدوره، حذّر المدعي العام السابق مايكل بن يائير، من أن "إسرائيل ستصبح دكتاتورية تتحكم بها أغلبية برلمانية عادية، على غرار بعض ديمقراطيات ما بعد الاتحاد السوفياتي في أوروبا الشرقية".
ما الذي تتضمنه خطة الإصلاح القضائي؟
تتضمن الخطة تشريعًا سيسمح للكنيست الإسرائيلي بإلغاء قرارات المحكمة العليا بأغلبية 61 عضوًا، حيث أن المحكمة العليا حاليًا، تمتلك القدرة على إلغاء أيّ تشريع في دولة الاحتلال، يتناقض مع قوانين الأساس (الدستور). بالإضافة إلى ذلك، سيتم منح أعضاء الكنيست تمثيلًا أكبر في اللجنة التي تعين قضاة المحكمة العليا.
كما سيتم توسيع لجنة اختيار القضاة لتضم 11 عضوًا، بدلًا من تسعة أعضاء، حيث تتألف اللجنة حاليًا من 3 قضاة من المحكمة العليا، و2 من المحاميين، ووزيرين وعضوين من الكنيست، والهدف في هذه الجزئية زيادة حصة أصحاب المناصب السياسية على حساب أصحاب المناصب المهنية.
ووفًقا للقانون الإسرائيلي، فإن أي تعيين لقاضي جديد للمحكمة العليا، يتطلب موافقة 7 أصوات على الأقل من 9، في حين أن التعديل الجديد الذي تقترحه الخطة، يكفي لتعيين القاضي، أن يصوت له 6 أعضاء فقط.
إلى جانب ذلك، ووفقًا لخطة الإصلاح التي اقترحها ياريف ليفين سيرتفع عدد أعضاء الكنيست في اللجنة من 2 إلى 3، على أن يكون 2 منهم من الائتلاف الحاكم، إلى جانب إضافة وزير جديد للجنة ليصبحوا 3 بدلًا من 2، من بينهم وزير العدل.
وتنص الخطة على أن منصب المستشارين القانونيين في الوزارات الحكومية لن يكون ملزمًا، ولن يتعين على رئيس الوزراء، والوزراء احترام الآراء القانونية، وتمنح لهم صلاحية تعيين أو إقالة أي مستشار قضائي في مكاتبهم، بما يلغي أيّ فرصة للرقابة على العمل الوزاري. حيث يتم تعيين المستشار القانوني، من قبل ديوان الخدمة المدنية، أيّ لا يرتبط التعيين بالتغيرات السياسية والانتخابات، ولا يمكن عزل المستشار القانوني إلّا من قبل المدعي العام للدولة.
ما هي مبررات خطة الإصلاح القضائي؟
يتحدث اليمين الإسرائيلي، الداعم الأساسي لخطة الإصلاح القضائي، عن أن النظام القضائي الإسرائيلي ولاسيما المحكمة العليا أصبح قويًا للغاية، ويتدخل في الكثير من القضايا السياسية الخارجة عن نطاق اختصاصه، وتسعى هذه الإصلاحات إلى إعادة التوازن بين السلطات، وهي ضرورية للنظام القضائي، وستحفظه ولا تدمره.
لماذا تعارض خطة الإصلاح القضائي؟
تقول المعارضة الإسرائيلية (وهي إجمالًا يمين ليبرالي أو يمين الوسط)، إن المضون الأساسي لخطة الإصلاح القضائي هو إعطاء الائتلاف الحاكم سلطة مطلقة للأغلبية دون الأخذ بعين الاعتبار رأي الأقلية، وهو تقويض لـ"الديمقراطية"، حيث ستتمتع السلطة التنفيذية والحكومة بسلطات غير محدودة تقريبًا، بالإضافة لذلك ستعمل على إضعاف الضوابط وعمل المحاكم والمستشارين القانونيين، إذ تستهدف تحييد عمل المحكمة العليا، بحيث لا يسمح للقضاة بمناقشة عمل أعضاء الحكومة، ووفقًا للاقتراح لن يكون القضاة قادرين على إبطال قرارات حتى رؤساء السلطات المحلية والمناصب المنتخبة الأخرى.
بالإضافة لذلك، تهدف الخطة إلى تغيير قانون الحصانة البرلمانية لأعضاء الكنيست والوزراء ورئيس الوزراء، بحيث لا يواجهون التحقيق أو المحاكمة خلال توليهم مناصبهم، وهو الهدف الأساسي من خطة وزير العدل بحسب المعارضين، بحيث يصبح السياسي والموظف الحكومي إلى رجل فوق القانون، وهو ما يحصن نتنياهو، وينقذه من المحاكمة.
ما الذي يمكن أن تفضي إليه خطة الإصلاح القضائي؟
في الواقع، تقييد عمل السلطة القضائية هو بمثابة الإلغاء الفعلي للمراجعة القضائية للمحكمة العليا للتشريعات الحكومية، وسيقتصر دور المحكمة العليا على مناقشة النزاعات المدنية والجنائية، في حين أن جميع قرارات الوزراء والحكومة تقريبًا، خارج نطاق عمل المحكمة العليا، وبهذه الطريقة، ستصبح الحكومة وقراراتها فوق أي جهة قانونية تسألها أو تتمكن من إيقاف قراراتها. فيما يعني القرار فعليًا، قلب نظام الحكم، وانتهاء الفصل بين السلطات، الذي تمارسه المحكمة العليا، حيث أن السلطة التنفيذية تتداخل مع السلطة التشريعية في إسرائيل، فرئيس الوزراء هو عضو في الكنيست، وكذلك يمكن للوزراء، أن يجمعوا عضوية الكنيست والوزراة معًا.
هل يمكن الاتجاه إلى حل وسط؟
كشف زعيم المعارضة يائير لبيد بأنه توجه إلى الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ بطلب لتشكيل لجنة لصياغة "اقتراح متوازن لبحث العلاقات مع القضاء"، وكشفت وسائل إعلام إسرائيلية أن هرتسوغ يدرس الفكرة، والتي قال عنها إنها "نحتاج إلى إجراء منظم".
وبحسب لبيد، فإن "تفكيك النظام القانوني وسحقه"، والذي تعمل عليه الحكومة بكل قوتها، يؤدي إلى "تمزيق المجتمع الإسرائيلي"، وحتى الأشخاص الذين يتحدثون عن الإصلاح القانوني منذ سنوات، يدركون أن هذا ليس إصلاحًا، إنه "تدمير للديمقراطية"، ولا ينفي لبيد من أن هناك شيئًا يجب إصلاحه في النظام القانوني، ولا يوجد نظام ليس لديه ما لا يعدل.
وكشف رئيس المعارضة أنه ناقش الموضوع مع الرئيس الإسرائيلي هرتسوغ، وقال "اقترحت على هرتسوغ تشكيل لجنة رئاسية مستقلة تصوغ اقتراحًا حقيقيًا ومتوازنًا ومدروسًا لتصحيح وتحسين النظام القضائي، وتنظيم العلاقة بين السلطة القضائية، والسلطة التشريعية"، وأضاف "ستكون اللجنة الرئاسية قادرة على الاستماع إلى جميع الأطراف، المحكمة، الحكومة، المعارضة، الشخصيات الأكاديمية، بدلًا من الجري الجامح الذي نراه اليوم"، مؤكدًا أن "الرئيس يدرس الفكرة، وأنا أؤمن وآمل أن يتم بالفعل تشكيل اللجنة الرئاسية، ومنع حدوث شرخ رهيب في شعب إسرائيل وتدمير ديمقراطيتنا"، وفق تعبيره.
كما اقترح وزير الأمن السابق بيني غانتس في وقت سابق من هذا الشهر تشكيل فريق مشترك "يقوم بصياغة إصلاح قانوني بإجماع واسع".
كما قدم البروفيسور دانيال فريدمان، الذي كان يُعتبر في السابق "عدوًا لدودًا للنظام القضائي"، اقتراحه التوفيقي الذي يشمل "إلغاء سبب المعقولية في بعض الحالات، وإلغاء نظام الأقدمية لانتخاب رئيس المحكمة العليا، وتغيير تكوين لجنة اختيار القضاة، ولا يقتصر على الحكومة وحدها تعيين كبار القضاة.
وتعليقًا على مقترح فريدمان، قال وزير العدل السابق جدعون ساعر، أن "هناك أشياء أقبل بها، ولكن هناك أيضًا أشياء لا أقبلها"، والحل الوسط بين التطرف والتطرف المتطرف، هو الحوار الموضوعي".
وكل ما سبق، وبالأخص اقتراح رئيس دولة الاحتلال، رفض من قبل الائتلاف الحاكم في إسرائيل.
القضاء مرحلة أولى
يُنظر إلى عملية "الإصلاح القضائي"، باعتبارها حلقةً أولى ضمن عملية ممنهجة يعمل عليها اليمين، من أجل الهيمنة على كافة المؤسسات التي تمثل النخب الليبرالية، وحاليًا تعيش هيئة البث الإسرائيلية العامة، صراعات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي حول الميزانية، كما يمكن أن يتم استهداف المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية، التي يعتبر التيار السائد فيها، تيارًا ليبراليًا، معاديًا لليمين في العموم. كما يصل الصراع إلى النخب تل أبيبية، والتي يتمظهر صراعها أيضًا في الحكومة، من خلال الصراع مع حزب نوعم الذي يقوده آفي ماعوز، المعادية للمثلية، والذي يستهدف المناهج والحصص اللامنهجية.
خطة الإصلاح القضائي تثير قلقًا دوليًا
خلال الاجتماع الخاص لمستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، أثار سوليفان موضوع خطة الحكومة الإسرائيلية لإصلاح النظام القضائي، مبينًا أن إدارة الرئيس بايدن تشعر بالقلق من أن الخطة 'قد تضر باستقلال النظام القضائي الإسرائيلي، والمؤسسات الديمقراطية الأخرى".
وهذا ما تكرر على لسان بلينكن، وسط حديث عن الإدارة الأمريكية، لا تفضل طرح هذا النقاش في العلن، وكان هناك نقاشات طويلة داخل الإدارة الأمريكية من أجل تحديد طريقة التعامل معه. بالإضافة إلى الرئيس الفرنسي الذي تحدث مع نتنياهو في الأمر قبل أسابيع، خلال زيارة الأخير إلى باريس. وبالطبع، القلق على الديمقراطية، هو قلق عليها، بصفتها ديمقراطية يهودية، دون أن تظهر الانتهاكات اليومية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في هذه النقاشات.
وينظر في إسرائيل (أو داخل النخب المعارضة للإصلاح)، إلى أن هذه الإصلاحات يمكن أن تنعكس على التحالف مع أمريكا، وبحسب تقدير نشرته جامعة ريخمان (معهد هرتسيليا سابقًا)، فهو يرى إلى أن الحكومة لا يجب أن تتخلى عن التحالف الاستراتيجي مع أمريكا، والعمل على مراعاة المخاوف الأمريكية، مع الإشارة للحذر من العلاقات مع الصين، ومحاولة بناء حوار مع الجيل الشاب في الحزب الديمقراطي، الذي يتعزز فيه التيار التقدمي، بالإضافة إلى تعميق التعاون مع يهود الولايات المتحدة.
خاتمة: حتى لا نذهب بعيدًا
يتداخل الصراع الشخصي (محاكم نتنياهو مثلًا) مع التصور اليميني (المحكمة بوصفها مؤسسةً غير منتخبة)، وتفاقم الصراع مع إلغاء المحكمة العليا تعيين أريه درعي في منصب وزير من الحكومة الإسرائيلية الحالية، التي كانت الفرصة الأبرز لليمين الإسرائيلي من أجل الإشارة إلى أن المحكمة العليا تسلب إرادة الناخبين.
على الجانب الأخر، أظهرت نتائج استطلاع مؤشر الديمقراطية الإسرائيلية بأن 55.6% من الإسرائيليين يؤيدون أن يكون للمحكمة العليا سلطة لإلغاء قوانين الكنيست إذا تبين أنها تتعارض مع مبادئ الديمقراطية. فيما تعمل المعارضة على أبراز أن الإصلاح القضائي يعمل على شق المجتمع الصهيوني عموديًا، ويقود دولة الاحتلال إلى "حرب أهلية"، بما يسلتزم من مبالغات خطابية من أجل التحشيد للمظاهرات ومعارضة خطة الإصلاح القضائي.
في كل الأحوال، الخطة حال تطبيقها، هي أقرب إلى قلب نظام الحكم من جديد وإعادة تشكيله، والقلق في أساسه داخلي، أي مرتبط في شكل نظام الحكم المطلوب وانعكاساته على الحياة داخل دولة المستوطنين، يمكن أن نفهم هذا تحديدًا من خلال مثال واحد، ولا يعكس كل المخاوف، ولكنه يعبر عن التصور العام. في الفترة الأخيرة، تحدث العشرات من الخبراء والصحفيين، عن أن إلغاء بعض صلاحيات النظام القضائي، سيعني أن هناك إمكانية، لمحاكمة جنود وضباط جيش الاحتلال بسبب الانتهاكات التي تنفذ ضد الفلسطينيين، خارج دولة الاحتلال، وهذا ما لا يحصل حتى الآن، باعتبار أن إسرائيل "ديمقراطية (لليهود)"، وتقوم بإجراءات، التحقيق القضائية، مما يحمي جنود وضباط الجيش من المحاكمة، خارج الدولة، وهذا ما قد يتغير بعد "الإصلاح القضائي".
فلسطينيًا وعربيًا، فإن المحكمة العليا الإسرائيلية، وكما تقترح الكثير من الدراسات والتقارير الحقوقية، مساهمة في الاحتلال بشكلٍ كبير، وتعمل على شرعنته باستمرار، ومنحت الضوء الأخضر لبناء المستوطنات، وتجاهلت الظروف المعيشية للفلسطينيين، وتساهم في احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين، وتقر بعمليات هدم وإغلاق منازل منفذي العمليات، إلّا أنها لا ترضي اليمين الصهيوني والرغبة المحمومة بالتوسع والسيطرة على المزيد من الأرض.
ورغم الممارسات الإسرائيلية الاستعمارية على امتداد أرض فلسطين، والتي تتكثف فيها عمليات القتل اليومي والاستيطان، فمنذ بداية العام الحالي قتل ما يزيد عن 40 فلسطينيًا، إلّا أن اليمين ما يزال يرى في المحكمة العليا خطرًا عليه. ويسعى إلى السيطرة على/ تفكيك المؤسسات غير المنتخبة، التي يفترض أن تحافظ على سير النظام السياسي، ضمن محدداته الدستورية.
يتكامل ذلك، مع الأجواء الشعبوية في "إسرائيل" والتي تم استنفارها بشكلٍ كبير خلال الانتخابات الأخيرة، والتي انعكست بالوصول إلى أعلى نسبة تصويت منذ عام 1999، وهو ما انصب في صالح اليمين، الذي يعتبر نفسه الممثل الأكبر لـ"شعب المستوطنين" وبالتالي يتصرف باسم "الشعب" ويمتلك كافة الصلاحية على أساس حصوله على تفويض "الشعب".
يشبه البعض الاستقطاب الحالي في دولة الاحتلال، باعتباره شبيهًا في الأيام التي سبقت اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحاق رابين، ورغم أن هذا الاستقطاب لا يبدو أنه يهدد المجتمع الاستيطان في دولة الاحتلال بشكلٍ جدي، إلّا أنه قد يترك أثرًا كبيرًا على المدى الأطول.
معالم هذه الأفكار، يمكن أن نجدها بوضوح في كتاب "لماذا تصوت لليمين وتحصل على اليسار"، المنشور بالعبرية عام 2017، والذي كتبه عضو الليكود والناشط اليميني في المجتمع المدني والمقرب من نتنياهو (يقال إنه يكتب خطاباته) إيريز تدمور.
وبحسب المراجعة العربية للكتاب، يُعدّ كتاب تدمور"بمثابة مرشد وخطة عمل لليمين للهيمنة على الدولة وأجهزتها، بحيث لا ترتبط هذه الهيمنة اليمينية بشخص حاكم، وإنما أن تكون "عميقة" وراسخة في جهاز الدولة، إذ يرى أن نجاح اليمين في انتخابات 1977، ووصول مناحيم بيغن لرئاسة الحكومة لأول مرة، لم يشكل ذاك "الانقلاب" الحقيقي في إسرائيل، لأنه على الرغم من صعود اليمين إلى الحكم أول مرة، إلا أن جهاز الدولة ظل تحت سيطرة "النخب اليسارية" كما يسميها التي أسسها حزب ماباي".
ويرى تدمور "أن اليمين لم يحكم فعليا، على الرغم من تفوقه انتخابيا في العقود الأربعة الأخيرة وقيادته الحكومة، ويرى أن المسألة ليست في عدد المقاعد في البرلمان (الكنيست)، ويكرّر أن الساسة ليسوا من يصنع السياسة، وأن المعركة ليست في "الكنيست"، وإنما في مكان آخر، في الحياة الفكرية وأجهزة التربية والتعليم، والإعلام والقضاء، وسلك الموظفين الكبار، في ميدان السجالات الثقافية، أي خارج البرلمان".
وينظر تدمور لاستهداف المحكمة العليا في دولة الاحتلال، معتبرًا أن "مهمة حكومة اليمين هي "دمقرطة مراكز القوى"، واستعادة التوازن بين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، أي إنهاء ما يسميها هيمنة المحكمة العليا والنخب اليسارية".
وخلاصة الكتاب هي، "أن على اليمين تحديد هدفين: تقليص ما يسميها الأوليغارشية القضائية، أي قضاة المحكمة العليا والمستشار القضائي للحكومة، وإعادتها إلى "حجمها الطبيعي"، وتقوية السلطة التشريعية، حيث اليمين يهيمن؛ وثانيا، تفكيك ما يسميها "منظومات الترهيب والصمت" التي تشغلها النخب اليسارية في وسائل الإعلام والجامعات والمؤسسات الثقافية، أو باختصار كما يسميها "دمقرطة مراكز القوى".
فلسطينيًا وعربيًا، فإن المحكمة العليا الإسرائيلية، وكما تقترح الكثير من الدراسات والتقارير الحقوقية، مساهمة في الاحتلال بشكلٍ كبير، وتعمل على شرعنته باستمرار، ومنحت الضوء الأخضر لبناء المستوطنات، وتجاهلت الظروف المعيشية للفلسطينيين، وتساهم في احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين
ويقدم تدمور، خطة عمل وتصورًا واضحًا، وكتابه أصبح أقرب إلى الكتاب الدراسي لليمين الصهيوني، الذي يتخذ أول خطواته في الكنيست حاليًا، تجاه الحد من صلاحيات المحكمة العليا.