تشهد السّاحة الفنية البيروتية في الآونة الأخيرة زخمًا في المعارض التشكيليّة. قد يكون هذا مخالفًا للأوضاع المعيشيّة التي يعيشها اللبنانيون. روّاد هذه الزّحمة في غالبيتهم أصحاب تجارب يانعة وفتيّة ولم يسبق لهم العهد أن أقاموا معرضًا، أو طرحوا لوحاتهم في المشهد العام.
تحت عنوان "Timelines"، قدّم الفنان اللبناني الشّاب راين عيد معرضه الأوّل الذي يستند إلى ذاكرة طفوليّة سحيقة
تحت عنوان "Timelines"، قدّم الفنان اللبناني الشّاب راين عيد مجموعة لوحات مختلفة، في غاليري LT في مار مخايل- بيروت. المعرض الفردي الأوّل لعيد طرح أمام المتفرّج سلسلة أعمال متباينة، جمعُها وألّف تفاصيلها خيطٌ وحيد هو مرجعيّتها. المرجعيّة ليست بوصفها إحالة إلى مدرسة فنيّة أو حالة لونيّة، إنّما يُمكِنُ اختصارُها بالعودة إلى ذاكرة طفوليّة سحيقة.
قامت فكرة المعرض، الذي انتهى قبل أيام، على عمليّة نبش خبايا ذاكرة الفنان، وبالأخصّ الزاوية الطفوليّة منها. جردة كبرى لسلسلة أحداث وقصص جرت وتناثرت في حياة عيد الشخص أولًا، والفنان ثانيًا. القصص الطفوليّة وسيرورة أحداثها شكّلت بطريقة ما موردًا للعودة إلى المواقف وقراءة تفاصيلها واستبيانها. هذه المرّة أتت القراءة على شكل أعمال فنيّة ومجسّمات تعالج ما هو عالق وتأخذ بيد صاحبها نحو مرحلة نضج وصفاء، وتتجه أيضًا بالتجربة اللونيّة نحوَ زاوية أعمق.
ضمُّ المعرض عددًا وافيًا من اللوحات المتنوّعة بين الفحم والألوان والاسكيتشات. بدايةً يجدُ المتفرج أمامه 16 لوحة من القطع الكبير عالج فيها عيد بطريقة فوضويّة وغير متّسقة شجون ومشاهد طفوليّة مكتسبة وعالقة. نجدُ ذلك في الجرّافات المطروحة داخل الأعمال وأيضًا الديناصورات وبعض رؤوس أبطال الرسوم الكرتونيّة. أغلب كائنات هذه عيد ملوّنة وفاقعة وتُحيل إلى عناصر فردوسيّة موجودة فقط في عوالم الأطفال. المساحات اللونيّة في أسفل الأعمال أتت بيضاء وخضراء قاحلة خالية من أي ضربة، فقط خلفيّة لونيّة مُسانِدة.
من جهة ثانية، احتوت الصّالة خمسة أعمال فحميّة. ركيزة هذه الأعمال الأساسيّة هي الضربات المتناثرة. من الواضح أنّ الفحم أعطى عيد حريّة في ضربته مختلفة عن الوسائل الأخرى. الوجوه المرسومة والملطّخة بانت بشكل أسلس. وأيضًا أعطت العودة إلى الفحم مساحة ومجالًا للفوضى والقدرة على التحرّك داخل كادر اللوحة. تحرّك يسير بركيزتين أساسيتين. الرّسم والمحو، ذهابًا وإيابًا.
المجسّمات الستّ التي طُرحت في الجانب الآخر، جسدت وحوش الطفولة العائدة لراين عيد. الوحوش المنقضّة التي بقيت رواسبها في داخله. نظرة سريعة إليها بإمكانها أن تنقلنا إلى تخيُّل بعض الألعاب. مثلًا الجرّافات والشّاحنات المتوافرة في متاجر بيع حاجيات الأطفال، إلّا أنّ اللمسة التي أضافها الفنان هنا تحفّز على السؤال عن قدرة هذه التماثيل على الرّعب والإخافة.
مفاجأة المعرض كانت عبارة عن سبع اسكيتشات تعود لأيام طفولة عيد. هذه الاسكيتشات التي طرحها أمام المشاهد حظيَ بها في خزانة والدته وأصرّ على تواجدها في إطلالته الفرديّة الأوّلى. الاسكيتشات وباقي الأعمال المعروضة شكّلت رحلة علاج ومصالحة مع رواسب طفوليّة داكنة وعالقة. الشّطوب والقساوة والتّراكيب الشكليّة المنتقاة والانزياحات مكّنت من تحقيق نوع من التشافي الداخلي وإخراج معالم التناقض بين بين طفولة مؤذية وحلوة في نفس الوقت.
تنتمي الأعمال بكليّتها إلى "Art naïf" و"Expressionnisme" وتعوّل على الشّكل كمصدر آخر لتركيب اللّوحة. لا توحي بشراسة ما أو بعنف رغم احتوائها لبعض الكائنات المخيفة من ديناصورات وآكلي لحوم البشر والأخطبوط الضّخم. إلّا أنّ مزاجها المسيطر يبقى طفولي مرح ذو شظايا لونيّة مريحة.
أمام المعرض البكر نسأل عن إمكانيّة وجود سرديّة ما في اللوحات؟ قصّة تفاصيل وسرد. لا شكّ أنّها تولي عناية واهتمامًا مميزًا بالطّقوس لكلّ منها طقس ومناخ. والفضيلة التي تنسب لها هي أنّها تقدّم لنا الطفولة بوصفِها نمطًا عاديًّا وسُلوكًا طبيعيًّا في الحياة. في لوحات راين عيد شخوصٌ وحكايات وجلسات علاج ظاهرة وأخرى مستورة، تنتمي كلّها إلى طينة واحدة لمجرّد المصادفة!