أحدثت النتائج الأولية لانتخابات البرلمان الأوروبي رجّة سياسية في عدة عواصم أوروبية في مقدمتها باريس، حيث أعلن قصر الإليزيه حلّ الجمعية الوطنية (البرلمان) ودعوة الناخبين إلى انتخابات تشريعية جديدة سابقة لأوانها في الثلاثين من حزيران/يونيو الجاري، وجاء قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إثر تقدم اليمين المتطرف الفرنسي بزعامة مارين لوبان في نتيجة الانتخابات الأوروبية بفارق كبير عن معسكر الأغلبية الرئاسية.
ورحّبت لوبان بقرار الرئيس الفرنسي معلنة أن حزبها مستعد لحكم فرنسا إذا منحه الفرنسيون ثقتهم. ولا يخلو هذا التصريح، حسب المراقبين، من زعمٍ يميني أن نتائج الانتخابات الأوروبية هي بمثابة تذكرة لحجز مقاعدة قمرة الحكم والسلطة في العواصم الأوروبية الرئيسية.
وتجدر الإشارة إلى أنّ اليمين المتطرف بعيد جدًا من الحصول على أغلبية مقاعد البرلمان الأوروبي، فما تزال أغلبية مقاعد البرلمان من نصيب حزب الشعب الأوروبي من يمين الوسط، والاشتراكيين من يسار الوسط، على الرغم من تراجع حصتيهما في مقاعد البرلمان الجديد، والتوقعات بأن يخفقا في استعادة أغلبيتهما المجمّعة في انتخابات 2019، ما اضطرهما في الأخير لتشكيل تحالفات غير رسمية مع أحزاب الخضر والليبراليين، ومن غير المؤكّد تكرار هذا السيناريو في ظل الهزيمة التي تعرض لها الخضر والليبراليون.
وفي مؤشر على أهمية هذه الانتخابات بلغت نسبة المشاركة فيها 64 في المئة بزيادة عن مثيلتها في انتخابات 2019 التي بلغت آنذاك 61.4 في المئة فقط. ويفسر المتابعون هذه الزيادة بالتحديات الضاغطة وعلى رأسها تحدي المعيشة وقضية الهجرة واللجوء والتحدي الجيوسياسي الذي فرضته حرب روسيا وأوكرانيا.
شهدت نسبة المشاركة زيادة ملحوظة في الانتخابات الحالية مقارنة بانتخابات عام 2019
وتعليقا على حجم الإقبال الكبير قال متحدث باسم البرلمان إنّ "هذه إشارة إيجابية بشأن الديمقراطية الأوروبية"، موضحًا أن هذه الزيادة في نسبة المشاركة "كانت في غالبية دول الاتحاد الأوروبي".
صعود اليمين المتطرّف
قفزت النتائج المعلنة بمجموعة من الأحزاب والأسماء اليمينية المتطرفة، وفي هذا الصدد عززت النتائج من مكانة ودور رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني بحصول حزبها على 28 في المئة من الأصوات، ما يؤهلها للعب دور الوسيط الرئيسي في السلطة ودور صانع الملوك في بروكسل.
على العكس من ذلك وجهت النتائج صفعة قوية لطموحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد التقدم الساحق لحزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بزعامة لوبان على أغلبية ماكرون الرئاسية. حيث حصد الحزب نسبة تتراوح ما بين 31.5 و32.5 في المئة من الأصوات المعبّر عنها. بينما حصل حزب فرنسا الأبية الذي يقوده ماكرون على نسبة لا تتجاوز 15.2 في المئة، وحلّ بعده في المرتبة الثالثة كتلة الاجتماعي-الديموقراطي بـ 14 بالمئة.
وفي تعليقه على هذه النتيجة قال ماكرون إنه "سيوقع مرسوم إجراء الانتخابات التشريعية للدورة الأولى في 30 حزيران/ يونيو، والدورة الثانية في 7 تموز/يوليو"، معتبرا في ذات الإعلان أن نتائج الانتخابات الأوروبية "ليست جيدة للأحزاب التي تدافع عن أوروبا" على حد وصفه.
وفي ألمانيا أظهرت النتائج تقدم التحالف المسيحي بحصوله على 30 في المئة، يليه مباشرة حزب "البديل من أجل ألمانيا"، وهو حزب يميني شعبوي متطرف، بنسبة 16 في المئة، وحلّ حزب المستشار الألماني أولاف شولتز في المرتبة الثالثة بنسبة 14 في المئة، وحزب الخضر بنسبة 12 في المئة. وليس مؤكدا بعد ما إذا كانت هذه النتيجة المخيبة للحزب الديمقراطي الاشتراكي ستدفع ألمانيا إلى السير على خطى فرنسا بتنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها.
وغير بعيد من ألمانيا يتوجه حزب الحرية اليميني الشعبوي إلى تحقيق فوز حاسم في النمسا وذلك بنسبة 27 في المئة من الأصوات، متقدما بذلك على الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الشعب النمساوي المحافظ. وبتحقيقه لهذه النسبة يكون حزب الحرية اليميني قد رفع حصته التصويتية بحوالي 10 في المئة مقارنة بالنتائج التي حصدها في انتخابات البرلمان الأوروبي عام 2019.
خسارة الخضر والليبراليون
خسرت مجموعة الخضر ربع مقاعدها في البرلمان الأوروبي، ما يعني تقلص مقاعدها من 70 مقعدًا إلى 53 مقعدًا فقط، بينما اقتصرت خسارة مجموعة تجديد أوروبا الليبرالية على فقدان 20 مقعدا من أصل 102 المقاعد البالغ عددها 720 مقعدا.
وبالنسبة للاشتراكيين والديمقراطيين من تيار الوسط أن يخسروا أربعة مقاعد، من 139 مقعدا إلى 135 مقعدًا، وتشير التوقعات إلى أن مجموعة اليسار ستخسر ثلاثة مقاعد، ليتراجع عدد مقاعدها في البرلمان الأوروبي من 37 مقعدًا إلى 34 مقعدًا لا غير. والسبب في هذه الخسارة البسيطة لليسار يكمن فيما حققه من تقدم في دول الشمال (فنلندا والسويد والدنمارك)، ففي فنلندا، حقق حزب "تحالف اليسار" 17.3 في المئة من الأصوات، أي أكثر بأربع نقاط مقارنة بانتخابات 2019. وفي المقابل تراجعت شعبية "حزب الفنلنديين" اليميني المتطرف المشارك في الائتلاف الحكومي، بحصوله على 7,6 في المئة من الأصوات، أي بانخفاض قدره 6,2 في المئة، ما يعني حصوله على مقعد واحد لا غير في البرلمان الأوروبي.
وفي السويد أحرز "حزب اليسار" نسبة 10.7 في المئة من الأصوات مسجلا تقدما بأربع نقاط، وفي المقابل تراجع اليمين المتطرف الذي يمثله "حزب ديمقراطيي السويد" بمقدار 1.4، فيما حافظ الاشتراكيون الديموقراطيون على موقعهم في المقدمة بنسبة 23.1 بالمئة.
وعلى ذات المنوال حقق اليسار نتيجة مقنعة في الدنمارك، بعد أن احتل الحزب الشعبي الاشتراكي الصدارة بحصوله على 18.4 في المئة من الأصوات، بزيادة قدرها 5.2 بالمئة مقارنة بانتخابات 2019.
أسباب عديدة غذت صعود اليمين المتطرف على رأسها الأوضاع المعيشية في بلدان الاتحاد الأوروبي والمخاوف المتعلقة بالمهاجرين واللاجئين والحرب الدائرة في أوكرانيا
ومع ذلك تعتبر نتائج اليسار على العموم في هذه الانتخابات مخيبة للآمال، وبوجه خاص في ألمانيا وفرنسا أكبر قوتين اقتصاديتين في الاتحاد الأوروبي، وفي هذا الصدد أعرب حزب اليسار في ألمانيا عن خيبة أمله بسبب أدائه الضعيف في الانتخابات، حيث لم يحصل على نسبة تتجاوز 2.5 في المئة. وقال الحزب في بيانٍ إن النتيجة التي حصدها توضح "حجم العمل الذي لا يزال أمامنا لاستعادة الثقة"، كما أعرب الحزب في ذات السياق عن صدمته من "التوجه نحو اليمين في ألمانيا وأوروبا".
الأغلبية من نصيب المحافظين والاشتراكيين والليبراليين
تمكنت كتلة حزب الشعب الأوروبي - مسيحيون ديمقراطيون مع الاشتراكيين الديموقراطيين وكتلة تجديد أوروبا – من الحفاظ مجتمعة على الأغلبية في البرلمان الأوروبي، وذلك على الرغم من التقدم الكبير لقوى اليمين المتطرف.
فهذه القوى مجتمعة حصدت 398 مقعدا من أصل 720 هي مجمل مقاعد البرلمان الأوروبي، وتتوزع كالتالي:
181 مقعدًا متوقعًا لحزب الشعب الأوروبي، و135 للاشتراكيين والديموقراطيين و82 لـ"تجديد أوروبا".
ويبدو هذا التحالف واعيًا بضرورة تشكيل ما أسمته رئيسة المفوضية الأوروبية وعضو حزب الشعب الأوروبي أورزولا فون دير لاين بـ"حصن في وجه المتطرفين من اليمين واليسار".
وتستعد فون دير لاين للحصول على عهدة جديدة في رئاسة المفوضية الأوروبية، حيث قالت أمس الأحد، بالتزامن مع إعلان النتائج الأولية "إنها واثقة بالتأكيد فيما يتعلق بترشحها لفترة ثانية جديدة كرئيسة للمفوضية الأوروبية".
وجاء هذا التصريح بعد أن أظهرت مؤشرات أولية من الاتحاد الأوروبي أن حزبها، حزب الشعب الأوروبي، المنتمي للوسط فاز بمعظم المقاعد في انتخابات البرلمان الأوروبي.
وأكّدت رئيسة المفوضية الأوروبية وعضو حزب الشعب الأوروبي أورزولا فون دير لاين، أمس الأحد، أن الحزب الذي ينتمي إلى يمين الوسط "سيبني حصنا ضد المتطرفين من تياري اليسار واليمين".
ومن المنتظر أن يعقد رؤساء التكتلات السياسية في الاتحاد الأوروبي اجتماعهم غدا الثلاثاء بالتزامن مع انعقاد أول اجتماع رسمي للبرلمان الأوروبي بعد الانتخابات التي جرت على مستوى دول الاتحاد.
وكانت الرئيسة الحالية للبرلمان الأوروبي روبرتا ميتسولا أكّدت أن البرلمان الجديد "سيبدأ العمل على الفور، وبالتحديد يوم غد الثلاثاء 11 حزيران/يونيو 2024، حيث من المقرر، من بين أمور أخرى، أن يقوم الرؤساء بتقييم نتائج الانتخابات الأوروبية من أجل انتخاب الرئيس المقبل للمفوضية الأوروبية ووضع خارطة الطريق لدستور البرلمان الجديد".