بضع ثوان قليلة كانت كفيلة بأن تكون مرافعة دفاعًا عن الخيال الفني والحرية، وأن تضع الملامح الرئيسية لفكر المخرج السوري الراحل حاتم علي. نتحدث عن مسلسل "أهو ده اللي صار"، الصادر عام 2019 من كتابة عبد الرحيم كمال والمعروض على منصة "نتفليكس". ففي الحلقة الـ 15 منه، ينتقل المخرج حاتم علي من خلف الكاميرا ويقف أمامها ليجسد شخصية صاحب المسرح، وكبير المنتجين، المعلم فخري صاحب مسرح "فخري".
أراد حاتم علي في مسلسله "أهو ده اللي صار" وضع دستور لحرية الفن والخيال والنوع المسرحي الواجب العمل عليه وبثه في المجتمع
ظهور ضمن لقطة واحدة، لقطة فيها الكثير من الواقعية لكأنها خالية من الأداء التمثيلي. لقطة واحدة بكلمات قليلة لا تتعدى بضع جمل قصيرة مترافقة مع ابتسامة أشبه ما تكون برسالة واضحة ومباشرة إلى الجمهور وكل من يعنيه الأمر. فليست صدفة، أو تصرفًا عشوائيًا دون مغزى، أن يقوم مخرج سينمائي بالظهور ضمن لقطة هامشية في مسلسل من 30 حلقة!
إنه مرور هتشكوكي بامتياز. فأفلام هتشكوك كانت تتضمن سمة بارزة، وهي مشاركته فيها كممثل يؤدي دورًا عابرًا أو حتى مشهدًا بسيطًا. ربما كان مرور هتشكوك لسبب تقني، غير أن مرور حاتم علي في مسلسله لم يكن عشوائيًا. رسالة أراد لها حاتم علي أن تصل إلى الناس بهذا الوضوح، وحسنًا فعل، إذ أدركه الموت بعد سنتين من عرض المسلسل عن عمر ناهز 58 عامًا.
الحكاية
قصتان تدوران في المسلسل بفارق زمني مئة سنة بين كل قصة. الأولى عام 1918 والثانية عام 2018. الأولى في منزل خديجة هانم، أرملة نوار باشا، وابنها يوسف باشا الذي يقع في غرام الخادمة "نادرة"، لكن والدته ترفض هذه الزيجة وتحول الظروف المجتمعية في حينها دون إتمام هذه العلاقة الغرامية، فضلًا عن خضوع يوسف باشا لوالدته. القصة الثانية تدور عام 2018، حيث يسعى يوسف، الحفيد الرابع لعائلة نوار باشا، للحفاظ على القصر الكبير من السرقة ومن الطامعين الكثر بامتلاكه، ويفضل تحويله إلى صرح ثقافي في الإسكندرية، غير أن وقوعه في حب الشابة سلمى يغيّر أهدافه.
دفاع عن الخيال الفني
أراد حاتم علي وضع دستور لحرية الفن والخيال والنوع المسرحي الواجب العمل عليه وبثه في المجتمع، والقائم على الحرية والإبداع. مسرح متحرر من سطوة الرقيب لا يقتصر على "الهلس بهلس" الترفيهي البسيط، بل يتعداه إلى كونه مسرحًا بلسان سياسي، من الناس وإلى الناس. مسرح يمس قضاياهم، ويحمل همومهم، ويحكي خطابهم، ويسخر من السلطة، ويهدم الأوثان والأصنام، ويكسر حواجز الخوف والصمت. مسرح من تراث الشعب، أصيل بدون تقليد، مسرح تقدمي بامتياز. رؤية تسربت إلى وعي المشاهد عبر أحداث المسلسل وحياة الشخصيات المعاشة بعيدًا عن أسلوب التلقين.
لكن ما هي فكرة العرض المسرحي التي يريد العمل عليها علي بحر؟ فلسان حال الشخصيات تنطق بما أراد لها حاتم علي أن تنطق به. يخاطب علي بحر زميله في الفرقة المسرحية فرح بالقول: "نحنا رح نعملو مسرحية، مسرحية كلها فن، كلها سياسة. أنا سألعب هارون الرشيد، وانتا الوزير بتاعه جعفر. لما نزلو السوق وهما عاملين نفسهم غلابة. هووب يلاقوه قدامهم اتنين تانيين أوبها واحد منهم هارون الرشيد والتاني الوزير جعفر وهما اتنين كذابين. ولما الملك المزيف ووزيره يقابله الملك الحقيقي ووزيره ساعتها تبقى حكاية".
يرد فرح: إحنا مالنا ومال جلالة الملك؟! إحنا ننزل البحر أسهل. الكلام ده خطر يا معلم علي. هيجيبونا من قفانا.
علي بحر: يووه، الفن اللي ما يقلش كلمته يغور يا فرح.
فرح: إحنا اللي هنغور يا عمي علي.
علي بحر: ما تخافش يا ولد.
فرح: يا عمي علي دول حاكموا قبل كده طه حسين والشيخ علي عبد الرازق. ربنا يستر.
علي بحر: لا إحنا منشتغل مسرح يعني فن يعني خيال يا فرح. معقولة حد يحاكم الخيال! هنسميها مسرحية "دبرني يا وزير".
ويتابع علي بحر: الفكرة أغلى من الفلوس يا فرح، وما دام عندي فكرة، يبقى أكيد هلاقي صاحب المسرح اللي يجري ورايه.
أثناء دخول علي بحر على صاحب المسرح لإقناعه بأهمية فكرته المسرحية يجيب المعلم فخري (حاتم علي) بالقول:
المعلم فخري: شو بدي قول بعد هالكلام يلي طالع من تمك متل الدرر. أنا رح أعرض العمل على مسرحي. يلي بكون معه فنان متلك لازم يكون قلبه قوي.
علي بحر: أنا راهنت عليك علشان نعرفو إن المعلم فخري يحب الفن ويقدره.
المعلم فخري: أنا بعرف إنو هيك شي رح يجبلنا وجع راس كتير، بس معليش، وين المشكلة؟ من يركب البحر لا يخشى من الغرق.
المسألة الطبقية
يطرح المسلسل مسألة الطبقية بسلاسة عبر رموز صغيرة. على سبيل المثال، تعيش خديجة هانم في قصرها في الطابق الأول والثاني، بينما يعيش الخدم في الطابق السفلي ويُمنع عليهم النوم في الطوابق العلوية، كما يُمنع لعب الأطفال في أرجاء القصر. خديجة هانم تنادي الخدم بواسطة قرع الجرس، ويمنع على البشاوات التمثيل على المسرح لأنها مهنة "مشخصاتي" مشينة. نوار باشا يقول: "لو مكناش الطبقة اللي هتحافظ عالأصول وتقبل الاعتذار، مين اللي هيعمل كده؟".
يطرح المسلسل ثيمات مهمة منها العلم والجهل، والتطرف والتعصب الدينيين، ونواة تشكل الإرهاب الفكري وارتباطه بالإرهاب العنيف، وظواهر الانتحاريين، وغيرها
هناك امتيازات للأغنياء كانت في الماضي، ولا زالت حتى الحاضر إذ يمتلكون القوة والمال والقدرة على تسيير الأمور لصالحهم وتزييف الوقائع. هناك تقاليد طبقية، فكل طبقة لها تقاليدها وأنظمتها ومعاييرها الثقافية والسلوكية والاجتماعية. وكذلك يصور المسلسل استمرارية الصراع الطبقي في مصر في الحقبات الزمنية كافة، وإن بأشكال مختلفة.
فلسفة الطز!
ترد مفردة الحرية بكثرة في المسلسل، وتكاد تكون شخصيات المسلسل ناطقة بلسان وفكر حاتم علي. تعبّر شخصية وديع البساطي بالقول: "الفنان حر، ولو ما بقاش حر، ما يبقاش فنان". عبارة تُنقش بحروف من ذهب. وأما يوسف باشا فيقول: "اللي بيفقد حريته بيفقد كل حاجة"، بينما يجيبه علي بحر: "لما تعيش حر تكون عشت، لو ما كنتش حر يبقى ما عشتش". يحاول يوسف باشا تأليف مسرحية: "عن واحد فضل طول عمره يقول حاضر حاضر حاضر وفي الأخر قال لأ"، فيرد علي بحر عليه بالقول "الإنسان لما بيفقد حريته هيقول في الأخر طز ويقرر إنو يبقى حر".
في حوار متلفز أجري معه في عام 2018، يقول المخرج حاتم علي: "(مسلسل أهو ده اللي صار) يحاول حكاية التاريخ الذي صار، لكن لا أحد يستطيع حكاية اللي صار كليًا، وحتى نحكي اللي صار نحن بحاجة لظرف مختلف سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، وهذا أمر صعب". ويضيف: "نحاول قول اللي صار بالإمكانيات المتاحة، بهامش الحرية المتاح أمامنا، لكن أن نتمكن من قول كل اللي صار أعتقد أننا بحاجة لوقت طويل حتى يكون الفن، سواء سينما أو مسرح أو تلفزيون، قادر على أن يقول كل الحقيقة".
وفي مقابلة أخرى، يؤكد الراحل أن: "العالم العربي يحتاج إلى المزيد من مساحات الحرية وهذا أمر مهم كي نخلق بيئة اجتماعية وثقافية، ومساحة كبيرة من الحرية فيما يتعلق بالرقابات سواء الرقابة الحكومية أم الرقابة الاجتماعية".
الحب وثيمات أخرى
ثيمة الحب ضرورية وأساسية في المسلسل. إنها قصة حب شكسبيرية تشبه مسرحية "حلم ليلة صيف" لـ ويليام شكسبير. قلب مغروم بآخر يعشق بدوره قلبًا ثالثًا. قلوب جريحة أضناها السعي وراء امتلاك المحبوب دون أمل، فليس كل ما يتمناه العاشق يناله.
هناك ثيمات أخرى مهمة يطرحها المسلسل، ومنها العلم والجهل، والتطرف والتعصب الدينيين، ونواة تشكل الإرهاب الفكري وارتباطه بالإرهاب العنيف، وظواهر الانتحاريين التي تفشت في القرن العشرين. يطرح حاتم علي رؤية رجال الدين للفن. وهي رؤية تترابط بين عامي 1918 و 2018، أي أن التاريخ بالنسبة لعلي سلسلة مستمرة مترابطة، حيث إن الفكر ومأزق هذا الفكر لا زال قائمًا بالرغم من مرور مئات الأعوام. ففي عام 2018 هناك فكر تكفيري منتشر يسعى لهدم الفن والثقافة، ونشر ثقافة الموت.
قضايا يطرحها حاتم علي على بساط البحث بواسطة سينمائية لكأنه "يقول شيئًا دون أن يقول شيئًا"، ويتخذ موقفًا من هذه القضايا عبر لسان شخصياته. قصص ثانوية تترابط خيوطها مع بعضها البعض لتشكل كتلة صلبة من السينما بدءًا من الحكاية وانسجام الأمكنة والأزمنة، وصولًا إلى الشخصيات التي أدت أدوارها باتقان لافت وشكلت متعة خالصة للمشاهدين، وانتهاءًا بلمسات حاتم علي الإخراجية حيث خرجت هذه التوليفة/التحفة من بين أنامله وفكره. مسلسل يحمل الكثير من السينما في حناياه، من الموسيقى التصويرية والأزياء والصورة والكادرات والأداء التمثيلي والتناسق بين كافة العناصر السينمائية.